فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (165):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [165].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} جمع خليفة. أي: يخلف بعضكم بعضاً فيها، فتعمرونها خلفاً بعد سلف، للتصرف بوجوه مختلفة: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ والمناظر والأشكال والألوان، وله الحكمة في ذلك. كقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف 32]، وقوله سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21]، وقوله تعالى: {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أي: ليختبركم في الذي أنعم به عليكم، أي: امتحنكم، ليختبر الغنيّ في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره. وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فغن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. أفاده ابن كثير.
ثم رهب تعالى من معصيته ورغّب في طاعته بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} أي: لمن عصاه وخالف رسله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لمن والاه واتبع رسله.
لطائف:
الأولى: قال السيوطيّ في الإكليل. استدل بقوله تعالى: {جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ} مَنْ أجاز أن يقال للإمام: خليفة الله. انتهى.
أي: بناء على وجهٍ في الآية. وهو أن المعنى: جعلكم خلائف الله في الأرض تتصرفون فيها. ذكره المفسرون. وآثرتُ، قبلُ، غير هذا الوجه لأنه أدق وأظهر، والله أعلم.
الثانية: قال القاضي: وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المبالغة واللام المؤكدة- تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى غفور بالذات، معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها، قليل العقوبة مسامح فيها. انتهى.
الثالثة: قال ابن كثير: إن الحق تعالى، كثيراً ما يقرن في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]، وقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 49- 50]. إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب.
فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها. وتارة بهما. لينجع في كلّ بحسبه. جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، إنه قريب مجيب.
قد تم بحمده تعالى الكلام على محاسن تأويل سورة الأنعام. وذلك ضحوة الأربعاء في 28 ربيع الأول. في شباك السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية عام 1321. وكان تخلّل مدة شهر ونصف، وقفت عن كتابة شيء من هذه السورة فيها، وذلك من آخر البحث في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} الآية، لعارض رحلتي إلى بيت المقدس في 28 محرم من العام المذكور. وبعد العود إلى الوطن في 8 ربيع الأول بدأت من قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} الآية. في 20 ربيع الأول، وتمت السورة في التاريخ المتقدم، و{الْحَمدُ للهِ الَّذي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدَانَا اللهُ}.
بقلم جامعه جمال الدين القاسميّ.
ويليه الجزء الخامس- ويحتوي على تفسير سُوَر:
7- الأعراف، 8- الأنفال، 9- التوبة.

.سورة الأعراف:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {المص} [1].
{المص} تقدم الكلام في أول سورة البقرة، على حروف فواتح السور، والمذاهب فيها.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [2].
{كِتَابٌ} أي: هذا كتاب: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه، وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء، ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.
قال الناصر: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} الآية: {لِتُنْذِرَ بِهِ} أي: بالكتاب المنزل، المشركين ليؤمنوا: {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: عظة لهم.
وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [3].
قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل، وهو القرآن، والمراد بـ: {مَا أُنزِلَ}: القرآن والسنة، وقوفا مع عمومه، لقوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به، لأنه من جملة ما أنزل الله، وقد أمرنا الله باتباعها- انتهى-.
وأقول: هذا غلو في الاستنباط، وتعمق بارد، ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار بَرَصاً.
{وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي: لا تتبعوا أولياء غيره تعالى، من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع.
{قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي: ما تتعظون إلا قليلا، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تعالى، وتتبعون غيره.
ثم حذرهم تعالى بأسه، إن لم يتبعوا المنزل إليهم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [4].
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم.
{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} أي: فجاء أهلها عذابنا.
{بَيَاتاً} أي: بائتين. كقوم لوط. والبيتوتة: الدخول في الليل، أي: ليلا قبل أن يصبحوا.
{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي: قائلين نصف النهار، كقوم شعيب. والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له، ليلا وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة، وكل ذلك وقت الغفلة.
والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفيه وعيد وتخويف للكفار، كأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن الراحة، فإن عذاب الله إذا نزل، نزل دفعة واحدة.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَو َأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ}؟
ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [6].
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم كما قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} أي: عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [7].
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} أي: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم {بِعِلْمٍ} أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة.
{وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي: عنهم وعما وجد منهم.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [8].
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، العدل.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي: حسناته في الميزان.
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: الناجون من السخط والعذاب.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [9].
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي: حسناته في الميزان {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بالعقوبة {بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} أي: يكفرون.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.
وقال الإمام الغزالي في المضنون: تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيراً من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سبباً يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات. فالميزان الحقيقي، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها.
فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات، والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.
الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً.
قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس، كما جاء في الصحيح: «أن البقرة وآل عِمْرَان يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غَيابتان، أو فِرقان من طير صَوَاف».
ومن ذلك في الصحيح: قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، «فيقول: من أنت؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك»، وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح». وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح.
فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}. الآية.
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»، ولا بعد في ذلك، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.
وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عُمَر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة».
وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: «يؤتى يوما القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}».
وفي مناقب عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده! لهما في الميزان أثقل من أحد».
قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار، بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارة توزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم- انتهى.
قال أبو السعود: وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي، والحكم العادل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريقة الكناية، قالوا: إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء، ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك، لأنها أعراض قد فنيت، وعلى تقدير بقائها، لا تقبل الوزن. انتهى. وأصله للرازي.
قال في العناية: فمنهم من أول الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل، أو مقابلتها بجزائها، من قولهم: وازنه، إذا عادله، وهو إما كناية أو استعارة، بتشبيه ذلك بالوزن المنتصف بالخفة والثقل، بمعنى الكثرة والقلة، والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف. انتهى.
فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.
قال في فتح البيان: وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الإستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة لأحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، حتى جاءت البدع كالليل المظلم، وقال كلٌ ما شاء، وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها، ويتحد قبولهم لها، بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم، يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصفِّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.
وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًّا مذكورة في كتب السنة المطهرة، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما، فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق، والصباح يغني عن المصباح. انتهى.
وخلاصته، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت، ولا تعذر هاهنا.
الثالث: إن قلت: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد؟ فما الحكمة في وزنها؟
قلت: فيه حكم:
منها: إظهار العدل، وإن الله عز وجل لا يظلم عباده.
ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى.
ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة.
ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة.
ونظيره، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى، كذا في اللباب.
وقال أبو السعود: إن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور، فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها، وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه، فما الفائدة في الوزن؟
أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح، وغير ذلك، وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته، ولا يخطر بباله خلاف ذلك- انتهى.
وقد سبقه إلى نحوه الرازي.
ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم، ونهاهم عن اتباع غيره، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، ذكرهم فنون نعمه ترغيباً في اتباع أمره ونهيه، فقال سبحانه: